(
انقر لقراءة المقال كما نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية)أو
(كما ورد بالمساء المغربية)..... كان للثورة الإيرانية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وقع الصدمة على الأنظمة العربية، التي نظرت إلى نظام الملالي الجديد نظرة ريبة وتوجس، ورأت فيه خطرا على أمنها واستمرارها، فكانت وما زالت تأخذ مسافة من النظام الإيراني، ان لم تقاطعه أو تسهم في حصاره، ولم يكن ذلك حزنا على نظام الشاه البائد، وإنما خشيةَ أن تصدّر إيران ثورتها إلى الدول العربية المجاورة، فتمتد إلى البقية.
ورغم 'واقعية' المخاوف و'جدية' التهديد آنذاك، إلا أن الزمن أثبت أن الثورة الإيرانية 'لزمت حدودها' أو أنها لم تبرح حدود نفوذها الشيعي على أقصى تقدير، واتضح أن مخاوف الأنظمة العربية لم تكن في محلها. شخصيا أعتقد أن الثورة الإيرانية لم تكن أصلا قابلة للتصدير أو الاستيراد، وإنما وُظِّفَت توظيفا مغرضا للترهيب ومزيد من إحكام القبضة الأمنية، فالثورة الإيرانية كانت ثورة 'زعامات دينية' على 'قيادات سياسية'، أي ثورة قمة على قمة، ولم يكن في القمة من النخب السياسية والمجتمعية لدى العرب من كان يمكن أن يقوموا بالدول العربية بالدور الذي قامت به المرجعيات الدينية في إيران. اليوم يختلف الوضع كليا مع الثورة التونسية، فهي ثورة شعبية خالصة، أي ثورة قاعدة على قمة، ثورة قاعدة عريضة منهوكة مسلوبة الحريات والحقوق، على أقلية في القمة أو محسوبة عليها، وهذه القاعدة التي أطلقتِ الشرارة وقادت الثورة في تونس موجودة وبنفس المواصفات والمعاناة في كافة الدول العربية، بما فيها النفطية، مما يجعل الثورة التونسية قابلة للتصدير والاستيراد، قابلة للتصدير التلقائي، من دون حاجة إلى جهة تتولى تصديرها، وقابلة للاستيراد من دون حاجة إلى جهة تتولى استلامها وتشغيلها (أو تشعِيلَها)، وقد لاحظنا في معظم البلدان العربية بوادر الانتقال التلقائي للثورة التونسية، والاستعداد الكبير لدى الشعوب العربية في استيرادها، فعمت حالات الانتحار أرجاء الوطن العربي من السعودية إلى المغرب، مرورا باليمن ومصر والسودان والجزائر، فظهرت الاحتجاجات لأول مرة في ليبيا والسعودية، وتجددت بالجزائر وتكثفت وتضاعفت حدتها باليمن والأردن، بل إن أكبر شعب عربي هو الشعب المصري المستفيق، شرع بالفعل في استلهام وتطبيق النموذج التونسي بحذافيره، إذ بدت مشاهد يوم 'جمعة الغضب' بشوارع القاهرة والسويس والأقصر وغيرها شبيهة حد التطابق بمشاهد ما قبل فرار بن علي بتونس.
لقد كان مفعول الثورة التونسية فوريا وكان تأثيرها لافتا على مختلف جوانب الحياة السياسية بالبلدان العربية كافة، وأثرت على الخصوص في الجانب المرتبط بشرعية ومقومات إسناد السلطة وانتقالها، كما حركت تلك الثورة من جديد دينامية علاقة 'الشد والجذب' الأزلية والضرورية بين الحكام والمحكومين، لأنه في ظل الأنظمة الشمولية التي ابتليت بها بلدان عربية، والجمود السياسي المطبق الذي يسود بأخرى، وحتى في ظل الحركية السياسية والحقوقية الظاهرية، الزائفة والعقيمة على كل حال، التي عرفتها بدرجات متفاوتة بعض البلدان العربية، في ظل أنظمة لا تخرج عن هذه الأصناف الثلاثة وما تخلقه من أجواء سياسية مشحونة وأوضاع اجتماعية محتقنة، لا يمكن لثورة المحكومين أو لنقل ثورة ثلاثة بالمئة هي نسبة التونسيين من العرب، لا يمكن لها إلا أن تكون شرارة مثالية في توقيت مثالي لانفجار عظيم ربما ليس إلا في بداياته. فالثورة التونسية إلى الحد الذي وصلت إليه ومهما كان مآلها، منحت شحنة هائلة من الثقة والجرأة لأولي الجذب من العرب المحكومين بقوة الحديد والنار، وزعزعت في المقابل ثقة وعنجهية ولامبالاة أولي الشد والحل والعقد من منحرفي حكام العرب على اختلاف مستويات مسؤولياتهم. ومنذ اندلاع الثورة التونسية وحتى قبل اليوم التاريخي المشهود، يوم فرار بن علي وتحقق نصر أولي جزئي لثورة شعبية لا نظير لها عربيا، بدأت تظهر نتائج تقدّم أهل الجذب من المستضعفين، وتراجع أهل الشد من ذوي السلط المختلفة، وتذبذب مواقفهم والتغير المفاجئ في نظرتهم إلى باقي الشعب، وهي نظرة تحوّلت من اللامبالاة والاستهانة والاحتقار إلى الحذر والتوجس والاستنفار، فلا تكاد تجد نظاما عربيا لم يتخذ من المبادرات العاجلة والسخية أحيانا، ما فاجأ ألدّ خصومه قبل أنصاره ومُواليه، غير أن معظم تلك المبادرات 'الاستعجالية' جاءت متواضعة وسطحية وترقيعية، كبعض المنح أو الزيادات الطفيفة في الأجور أو التخفيضات الرمزية للضرائب أو وعود فضفاضة بالإيواء أو التشغيل، فعكست الجانب الاحترازي الأمني الآني، ولم تعكس أبدا الرغبة الأكيدة في التغيير السياسي والتشريعي العميق. أخشى شخصيا أن نكون قد بلغنا بالفعل وبالعديد من البلدان العربية إلى مرحلة 'حتمية الثورة الشعبية' أو مرحلة 'لا رجعية مسلسل اندلاعها' في كذا قطر عربي، أي أن يكون توالي مراحل وأحداث الثورة قد صار لا رجعيا فلا تنفع للحيلولة دون اندلاعها إجراءاتٌ أو 'رتوشاتٌ' أو وعودٌ. أقول 'أخشى' لأن تفادي الثورة بالإصلاحات العميقة بدءا من الدستور وقمة هرم السلطة وإحلال الديمقراطية والسلم الاجتماعي وتداول السلطة وما إلى ذلك من مقومات الحكم الرشيد، يمكن أن يجنب البلدان العربية ما ينجم من خسائر بشرية ومادية وما يعرضها لاندلاع مواجهات أهلية دامية أو انتشار الفوضى، ويجنبها التحول إلى دول فاشلة على مدى عقود. فهل يبادر القادة والمسؤولون الذين لم يفتهم الأوان كالمسؤولين التونسيين وربما المصريين، هل يبادرون إلى إعلان إصلاحات سياسية ودستورية عميقة ليجنبوا أنفسَهم وشعوبَهم الأسوأ؟
عبد اللطيف البوزيدي - كاتب مغربي - القدس العربي اللندنية