شي يديرها وشي يمشي فيها
رشيد نيني 15 - 12 - 2010
بعد استغلال بعض الولاة لمزايا الرخص الاستثنائية في مجال البناء -كما هو حال الغرابي، والي فاس- ها نحن اليوم نرى كيف أن ولاة آخرين اخترعوا نوعا جديدا من الرخص الاستثنائية، يتعلق بالاستثناء القضائي.
وبعد تدخل لجهات سياسية في الحسيمة لدى والي الإقليم، تم إطلاق سراح الشبان الذين تم اعتقالهم على خلفية أحداث العنف التي شهدتها المنطقة والتي أدت إلى إصابة عدد من المتظاهرين وإحراق سيارة أحد رجال السلطة، إضافة إلى ست سيارات أخرى، وإصابة دركيين إصابات خطيرة وتعريض 25 من أفراد قوات الأمن لجروح متفاوتة الخطورة.
ورغم خطورة ما وقع وتعرض أفراد الأمن وسياراتهم للاعتداء وقطع المتظاهرين للطريق الرئيسية وعزلهم للمنطقة، فإن السلطة القضائية ارتأت عدم متابعة المسؤولين عن الخسائر التي لحقت برجال الأمن والدرك وسياراتهم.
وفي الوقت الذي كان فيه هؤلاء الشبان يغادرون مخفر الأمن بالحسيمة، كان شبان آخرون في المحمدية، وبالضبط من دوار «بوعزة»، يلتحقون بسجن عكاشة حيث يوجد ستة من زملائهم المنحدرين من دوار «البراهمة»، والذين اعتقلتهم السلطات بتهمة عرقلة السير في الطريق السيار وتعريض حياة المواطنين للخطر، بعدما لجؤوا إلى الاحتجاج وسط الطريق العام بسبب تماطل السلطات في تقديم المساعدة إليهم بعد الفيضانات الأخيرة التي دمرت مساكنهم.
نحن الآن أمام نوعين من التعامل الأمني والقضائي. في الحسيمة، عندما يتظاهر المواطنون ضد التهميش والبطالة والظلم الاجتماعي ويقطعون الطرقات ويردون على عنف الأمن بعنف مضاد ويحرقون السيارات ويتسببون في تكسير عظام رجال الدرك والأمن، يتم التدخل من أجل إطلاق سراحهم وعدم متابعتهم.
أما في المحمدية، فعندما يحتج مواطنون على السلطات بسبب تقاعسها عن مساعدتهم لتجاوز كارثة الفيضانات التي حطمت بيوتهم وجرفت ممتلكاتهم وتركتهم بدون مأوى، فإن السلطات تعيد إيواء المسؤولين عن الاحتجاجات داخل زنازين سجن عكاشة استعدادا لمحاكمتهم بتهم ثقيلة.
في مداخلته العنترية الأخيرة بفاس إلى جانب ضيفه حمدي ولد الرشيد، رئيس المجلس البلدي للعيون، طالب شباط، عمدة المدينة، بمنح جميع المتابعين في أحداث العيون الدموية عفوا شاملا، كما طالب الدولة باستعادة هيبتها.
وهناك موضة انتشرت في الآونة الأخيرة تقتضي أن يطالب كل من يرغب في «حشيان شريحتو فالشريط» والركوب على الأحداث، ملكَ البلاد بإصدار عفو شامل عن المتابعين في أحداث العيون الإجرامية. والحال أن العفو الملكي لا يصدر لصالح المجرمين والقتلة والذين يذبحون رجال الأمن ويتبولون على جثثهم.
إنها إهانة للعفو الملكي أن يطالب البعض بمنحه لصالح المعتقلين الذين ثبت تورطهم في أحداث القتل والذبح التي عرفتها العيون. كما لو أن هؤلاء الذين ذبحوا لا تستحق عائلاتهم رؤية قاتلي أبنائهم يحاكمون وينالون جزاءهم.
كما أنها إهانة لهيبة الدولة وكرامة رجالها أن يجعل عمدة فاس ورئيس المجلس البلدي للعيون، الاستقلاليان، من إصدار العفو عن المتورطين في الرجم والذبح والتمثيل بالجثث، مدخلا لاستعادة الدولة لهيبتها.
إن هيبة الدولة يتم فرضها بالقانون، ولا شيء آخر غير القانون. وسواء تعلق الأمر بمغاربة من الريف أو الشرق أو الشاوية أو سوس أو الصحراء، فإن القانون يجب أن يطبق على الجميع وبدون تمييز أو استثناء.
عندما يتردد القانون في السريان على جميع المواطنين، وبنفس المقاييس، نصبح أمام ظاهرة خطيرة اسمها «الاستثناء القضائي»، أي أن هناك مناطق، بسبب حساسيتها أو بسبب تسييرها من طرف جهات سياسية ذات نفوذ، يحظى مواطنوها برخص قضائية وأمنية تبقى مناطق أخرى محرومة منها.
خطورة مثل هذه الاستثناءات القضائية أنها ستخلق شعورا اجتماعيا بالظلم وعدم المساواة بين الجهات.
ما هو الحل، إذن؟
الحل بسيط للغاية. ويكمن في التطبيق الصارم للقانون من جهة، ومن جهة ثانية في التزام الدولة الصارم أيضا بتطبيق بنود اتفاقية حقوق الإنسان، وعلى رأسها الحق في السكن والشغل وضمان الحق في التعبير عن الاحتجاج بطريقة سلمية.
إن مأساة العقل الأمني، الذي يفتي طريقة إدارة الاحتجاجات الاجتماعية في المغرب، تتلخص في كونه يشكو من قصور كبير. فمن أجل حل مشكل عويص في الصحراء، يختار تجريد رجاله من الأسلحة ورميهم في فك الوحش لكي يفترسهم والاكتفاء بتصويرهم، كما حدث في العيون. ومن أجل حل نزاع عائلي بسيط، يختار تجهيز رجال أمنه بأسلحة الردع المتطورة ويختار لغة المواجهة المسلحة بالرصاص المطاطي والغازات المسيلة للدموع وهدير محركات المروحيات في الأجواء، عوض لغة الحوار، كما حدث في الحسيمة.
وفي كلتا الحالتين، المتضرر الأول والأخير من هذه «الإدارة» السيئة للاحتجاجات الاجتماعية هو هيبة الدولة وصورتها.
فالصور التي عممتها كثير من المواقع الإلكترونية والصحف لرجال الأمن بالحسيمة، وهم يحملون جرحاهم ويتراجعون إلى الخلف بسبب الحجارة التي كانت تهطل عليهم، تسير في المنحى نفسه الذي سارت فيه الصور التي عممتها وسائل الإعلام الوطنية والدولية لأفراد القوات المساعدة والأمن الذين وقعوا في أسر مجرمي مخيم «أكديم إزيك» وتعرضوا على أيديهم للرجم حتى الموت.
لا أحد يدعو إلى معاقبة المواطنين وحبسهم كلما خرجوا إلى الشارع للتعبير عن احتجاجهم بطريقة علنية.
على العكس تماما، فالحق في الاحتجاج يجب أن يكون أحد الحقوق الأساسية التي يتربى عليها الإنسان منذ الصغر. وما على هؤلاء الأمنيين المتحجرين الذين ترعبهم الحركات الاحتجاجية سوى أن يتابعوا نشرات الأخبار الأوربية لكي يشاهدوا كيف يقضي مواطنو تلك البلدان أيامهم في الاحتجاج تضامنا مع قضايا غريبة لا تستثني حتى حقوق الحيوانات.
لكن لا أحد، بالمقابل، يجب أن يدعو إلى التغاضي عن تطبيق القانون ضد كل من يحول حركة احتجاجية سلمية إلى مناسبة لتدمير الممتلكات العمومية وإحراق السيارات ورجم رجال الأمن بالحجارة. هنا، نصبح أمام أعمال شغب وليس أمام حركة احتجاج. وأمام أعمال الشغب، فإن القانون واضح وصارم. وعندما تتحول حركة احتجاجية إلى حركة تدمير وإحراق ومواجهة بالحجارة مع رجال الأمن، فإن المسؤولين عن إخراج الاحتجاج من سياق اجتماعي إلى سياق إجرامي، يجب أن يحاكموا أمام القضاء.
وشخصيا، أعتقد أن إصابة رجال الدرك والأمن بالحجارة وإحراق سياراتهم في الحسيمة أخطر بكثير من مجرد قطع مواطنين للطريق السيار بالمحمدية. ولذلك، فالتساهل مع المسؤولين عن أحداث الحسيمة وإطلاق سراحهم، والتشدد في اعتقال المسؤولين عن احتجاجات المحمدية وتقديمهم إلى المحاكمة، يبدو غير منطقي وفيه حيف قضائي وميز اجتماعي غير مبررين.
وكما أن المغاربة يجب أن يكونوا متساوين في الواجبات المفروضة عليهم، فيجب أن يكونوا أيضا متساوين في الحقوق التي يجب أن تستفيدوا منها بغض النظر عن الجهات التي ينتمون إليها.
وسكان الريف ظلوا لسنوات طويلة يعانون من التهميش السياسي والاقتصادي الذي أجبر الآلاف منهم على الهجرة شمالا نحو أوربا للحصول على لقمة العيش. واليوم، هناك إرادة سياسية على أعلى مستوى لإعادة الاعتبار إلى هذه المنطقة وإلى أبنائها، لكن هناك إرادة حكومية، مجسدة في الوزير الأول عباس الفاسي، ترفض تركيز جهودها لحل أزمة البطالة والسكن بهذه المناطق التي لازال ضحايا زلزالها يطالبون بإيوائهم إلى اليوم.
إن التحدي المطروح اليوم على الدولة يتجلى في مدى قدرتها على الاستجابة للمطالب الاجتماعية للمواطنين. فكل النعرات العرقية واللغوية والأحلام الانفصالية تغرف من احتياطي الاحتقان الشعبي الذي يتراكم بسبب التهميش والحرمان والفقر.
لذلك، فأعداء هيبة الدولة الحقيقيون ليسوا هم أولئك الشبان الغاضبين والموتورين الذين يقذفون سيارات الأمن بالحجارة ردا على رصاصهم المطاطي وقنابلهم المسيلة للدموع، وإنما أعداء هيبة الدولة الحقيقيون هم الفقر والبطالة والسكن غير اللائق والظلم الذي يعشش في المحاكم والمؤسسات العمومية.
ولكي تستعيد الدولة هيبتها، يجب عليها أن تحارب هؤلاء الأعداء بخلق فرص الشغل للشباب العاطل، وتوفير السكن اللائق للمواطنين، ومحاكمة المسؤولين الفاسدين الذين يرهبون المواطنين ويظلمونهم ويريدون العودة بهم إلى ظلمات العبودية.