07 / 4 / 2011
بداية, إلقاء الحكومة اللوم على الإخوان المسلمين لم يلق أي مصداقية, ولم يفد بأكثر من تقريب الصورة الأردنية لما حدث في مصر. ويستوقفنا هنا تحديدا الشبه بين طلب الحكومة من إخوان الأردن المشاركة في لجنة الحوار التي انتقت الحكومة أعضاءها, وطلب عمر سليمان من الإخوان الجلوس إلى طاولة الحوار، وتحميلهم ما جرى في ميدان التحرير، في رسالة موجهة للخارج لم تلبث أن سقطت. فما جرى في الأردن أيضا لا يعكس سطوة الإسلاميين، بل يعكس حقيقة أن التغيير الجذري نحو الدمقرطة والحداثة الذي يقوده شباب من كل التيارات والمشارب, وغالبيته الساحقة غير مؤطرة, امتد إلى الإسلاميين. تغيير تجاوز -بل وأسقط- كل طروحات الإسلاميين التقليدية بمثل ما تجاوز الأنظمة الدكتاتورية العربية وبات يسقطها تباعا. ويبدو أن الجهات الرسمية تدرك حاجتها لدرجة من المصداقية تضفي على أفعالها غلافا من الشرعية, ولكن العجيب أنها لجأت في هذا لتزوير الحقائق إلى حد قلبها. بدءا بزعم أن قواتها تدخلت لفك اشتباك بين جماعتين من المطالبين بالإصلاح: المعتصمين في ميدان جمال عبد الناصر, و"الموالين" المطالبين بالإصلاح ولكن "الرافضين لمبدأ الاعتصام المعطل للحياة العامة"..، وفي حين كان الشتم البذيء الذي طال أعراض الأمهات والأخوات مما مارسه البلطجية المحميين من قوات الأمن, فإن المؤسف هو أن مدير الأمن العام ذاته قام بمحاولة مكشوفة لقلب تلك الحقيقة في مؤتمره الصحفي, وهو ما نقضته شهادات كل الشهود وما نقلت عكسه كاميرات التلفزة والهواتف النقالة. ومحاولة توظيف ممارسة كهذه تؤكد أنه لا الضرب ولا الشتم المؤذيان كانا خارج النص, ولا ندري حقيقة ما إن كان القتل نفسه كذلك, فهذا أيضا جرت محاولة تزوير حقائقه واتهام المعتصمين به. وبلغ الأمر أن تضغط الداخلية وقيادات أمنية على أهل القتيل الذي سقط بهُريّها وحجارة وعصي البلطجية, كي يقولوا إنه كان من جماعة "الموالاة" لتحمّل المعتصمين دمه. ولافت أيضا, أنه مع تأكيد وزير الداخلية أن السبب الرئيس لفض الاعتصام بتلك الطريقة هو ما رقي لمبدأ مقدس يتمثل في "تعطيل الحياة العامة" في الميدان..، إلا أن قوات الأمن والدرك ذاتها, التي احتفلت مع البلطجية بالرقص والغناء والدبكة في موقع المجزرة, لم تحرك ساكنا ليومين تليا الجمعة الدموية, استجلبت فيهما سيارات وباصات تتبع جهات رسمية مليئة بشباب يلوحون بالسلاح الأبيض, ظلوا يعوقون الحركة في منطقة الميدان وكل الطرق الحيوية المفتوحة عليه, ويطلقون ذات الشتائم والتهديدات البذيئة التي تستهدف قطاعات كبيرة من الأردنيين, بل وأوقفوا باصات احتج سائقوها على الإعاقة، وأنزلوهم منها وأوسعوا السائقين وعددا من الركاب ضربا!!. وحتما, في عصر الصوت والصورة, لا يمكن تسويق هكذا قلب مخز للحقائق. وجاءت الحقائق بإجماع غير مسبوق على أن هؤلاء الشبان مجرد "بلطجية". وانكشف منهم فورا من تم تجميعهم لحظيا بالتغرير ببعض شباب المحافظات المفقرين والمهمشين عمدا عبر عقود, وتحديدا من "معان" التي استهدفت تحديدا منذ انتفاضة نيسان عام 89. وقد بلغ حجم استهداف تلك المحافظة أن اعترفت حكومة علي أبو الراغب التي جرى اجتياح العراق في عهدها -للخارج وليس للإعلام المحلي- بأن حصار معان والغارات الأمنية عليها بذريعة مطاردة إرهابيين والتي استمرت لما يقارب العام, كان إجراءً احتياطيا سبق ذلك الاجتياح!!. وكان قد سبق أحداث الجمعة, ومع ضغط المطالب بالإصلاح ومحاسبة الفاسدين, إعلان أن الحكومة أحالت للقضاء ملف قضية فساد كلفت الدولة ما يقارب نصف مليار دينار في مشروع إسكان مخصص للفقراء, وتورط فيها وزير إسكان وأشغال عامة. وشركة الإنشاءات المتهمة بعطاء "سكن كريم" واحدة من الشركات التي كان والد الوزير قد سجلها باسم الابن عند تولي الأب (عبد الهادي المجالي) وزارات مشابهة ومواقع أعلى تحول دون حصوله على أي عطاء رسمي. وما يعني موضوع مقالتنا هو أن الوزير كان هدد قبل أيام من أحداث الجمعة بأن أحدا لن يجرؤ على توقيفه لأن وراءه ألفيْ مسلح, هم حقيقة مليشيات مسلحة لعائلة الوزير التي تحولت إلى أحد "مراكز القوى" (تسمية محلية لمتنفذين يفتقدون كليا القواعد الشعبية، ولهذا يعمدون إلى التأثير بطرق غير مباشرة وغير مشروعة في القرارات الرسمية). وكان تسجيل الترخيص لشركة الأمن والحماية الخاصة قد جرى باسم أحد أعمام الوزير في ثمانينيات القرن الماضي حين كان والد الوزير مديرا للأمن العام. ومن منصبه ذاك تطوع الوالد لقمع انتفاضة نيسان عام 89 المطالبة بالديمقراطية, فأصبح عزله بالاسم مطلبا للجماهير.. ولكنه عاد, بتولي أخ ثان له رئاسة الحكومة التي وقعت اتفاقية وادي عربة وفي انتخابات أجرتها تلك الحكومة كما أجرت التي تلتها, ليقال إنه وصل للنيابة بأصوات أهل الجنوب الذين قمعهم.. ثم لينتخب رئيسا لمجلس نواب أوصلوا بذلت الطريقة عن طريق حكومة الأخ!!. هذا عن ألفيْ عنصر مليشيا مدربة مسلحة سبق التلويح بها قبل أحداث الجمعة بأيام فقط. ولكن بقية المهتمين بإفشال مطالب الإصلاح لم يكونوا بحاجة لتشكيل مليشيات حتى. فقد نشر خبر يفيد بأن اثنين من أكبر المتهمين بالفساد بمئات الملايين, وسبقت المطالبات بمحاكمتهما الانتفاضة الحالية بسنوات, اجتمعا مع رئيس مجلس النواب الحالي (الذي أنكر اجتماعه بهما) لإحياء هيئة شباب ما كان شكّل تحت مسمى "شباب كلنا الأردن" في عهد تغول هذين تحديدا على القرار السياسي والمالي والتشريعي, وتحديدا عبر أكثر من مائتي قانون مؤقت غير دستوري أصدرتها الحكومة التي كان وزير صناعتها وتجارتها ثم عدلها ونائب رئيسها أحدهما. وتيسرت مصادقة الملك على تلك القوانين بكون مستشاره ورئيس ديوانه (وتسلّم قبل ذلك وأثناءه قائمة لا تتسع لها صفحة من المناصب الوزارية وفوق الوزارية تشمل كل شأن اقتصادي داخلي وخارجي) ثانيهما, وهي قوانين إما شرعت للفساد وحمته، أو صادرت حقوقا وحريات كفلها الدستور للمواطنين. وهدف الاجتماع لتشكيل حركة مناوئة للإصلاح تحشد شباب الهيئة بذريعة "الوقوف مع الملك"، كما ورد في الخبر الذي لاقى استهجانا كبيرا من المطالبين بمحاربة الفساد والقضاء على رؤوسه. وهؤلاء حتما ليسوا الوحيدين الذين يتلاعبون بالمشهد بصورة خطرة، ولا مجال هنا لجرد القائمة, فمرجعيات البلطجية تعددت تعدد أجنداتها وأدوارها, باستثناء قاسم مشترك وحيد وهو ربط هؤلاء لما يفعلونه بالملك ليقدم باعتباره الواجهة الموحدة لما جرى بتسمية البلطجية حصريا بـ"الموالاة", وبالتحشيد وعرض المنافع باسم الملك، مما دفع القائمين عليه للتزاحم لتقديم أنفسهم للديوان الملكي باعتبارهم رجاله وقت الشدة. ويعزز هذا نبأ بثته وكالة الأنباء الأردنية بترا عن لقاء وفد يمثل من أحضروا من مدينة "معان" لمسيرات "التأييد والمولاة" التي جابت شوارع عمان المحيطة بميدان عبد الناصر, مع مستشار الملك رئيس لجنة متابعة المبادرات الملكية, وفي الديوان الملكي..، هذا مع أن ما شهده المواطنون ووثقته الصورة والصوت عن تلك المسيرات أظهر أن سيارات وحافلات لهيئات رسمية عليها صور الملك وشعارات تأييد مطلق له, رددها ركابها الشبان الأغرار وهم يشهرون الخناجر, متبعينها بهتافات عنصرية وشتائم بذيئة, وحتى بالاعتداء الجسدي الذي لم يستثن أحدا من كل المنابت والأصول والتوجهات السياسية ومن هم دون توجه سوى للإصلاح, وصولا لمارة وركاب باصات لم يعتصموا ابتداءً. وانفض كرنفال البلطجة دون أن يأبه أي ممن قاموا به بلم بقاياه. وهو ما اضطر الملك -الذي وضع في الواجهة- لإدانة أحداث الجمعة، وقوله إن ذلك ليس أسلوب وأخلاق الأردنيين. وجاء ذلك في لقاء له مع من بقي, ومن كان انسحب إثر تلك الأحداث من لجنة "الحوار الوطني", التي كانت شكلتها الحكومة لوضع قانونيْ الانتخاب والأحزاب, دون مشاورة واستمزاج القوى الشعبية، ودونما حتى استمزاج أعضاء اللجنة الذين أوصت بهم "مراكز القوى"، لدرجة أن فوجئ بعضهم بنشر اسمه كعضو في اللجنة التي أكثر من ثلثها لم يسمع به أحد من قبل..، وهو ما كان أتاح للقلة الممثلة لثقل شعبي في اللجنة أن يقودوا البقية الطامحة لمثل ذلك الثقل، في وقت لم يعد فيه أحد يعوّل على الجهات الرسمية بل على الشارع, وفرضوا شمول مهمتهم ببحث التعديلات الدستورية أيضا. وإزاء تهديد انفراط اللجنة -التي هي كل ما جادت به قريحة مراكز القوى للالتفاف على الحراك الشعبي- هرع رئيسها لاستخلاص قبول ملكي بمجرد بحث التعديلات دون التزام بها. وكان هذا أول تنازل يقدمه القصر نتيجة سياسة شراء الوقت بزعم بدء حوار كان جاريا منذ عقود، وكان الشعب قد استكمله بحسم قراره بوجوب العودة لدستور عام 1952 وللملكية الدستورية. قبول بحث اللجنة في التعديلات الدستورية كان قبل توظيف اسم الملك لحشد "البلطجية". لهذا فإن نأي الملك بنفسه عما جرى باسمه بعد ذلك لم يعد يكفيه الشجب والإدانة, فاضطر لقبول المطلب الشعبي الإصلاحي الرئيس، وتقديم ضمانته الشخصية لأي تعديلات دستورية تقترحها اللجنة. وحقيقة أن ما يقارب ثلث أعضاء اللجنة كانوا قد انسحبوا منها بعد أحداث الجمعة, منضمين لمن كان استنكف عن المشاركة فيها ابتداء, ألزم بلقاء للملك مع قوى شعبية أخرى. ولكن حتى وهي تتحرك لإصلاح ما أفسدته, لم تتوان الحاشية إياها عن الغوص أعمق في ذات النهج المستعدي للشارع. فجيء للملك, بعد لجنة الحوار المعينة المرفوضة شعبيا, وللمرة الثانية خلال شهرين، مع أن المرة الأولى أثارت استياء شعبيا, بـ"مجلس النقباء" ليخاطبه الملك قائلا أنْ "لا أحد سيثنيه عن تلبية إرادة الأردنيين". ومن منطلق أن الملك -وهو يحاول ترميم شق بهذا الحجم- لا يمكن أن يتكئ على إسفين, نكاد نجزم بأن أيا من الحاشية لم يبلغ الملك بأن مجلس النقباء لم يعد الجهة التمثيلية الشعبية التي نجحت طوال العقود العرفية في القيام بدور المعقل الشعبي البديل للأحزاب ومجالس النواب المغيبة أو المزورة. فقد جرى مؤخرا اختراق مجالس النقابات (مثل هيئات أهلية أخرى) بدرجة اضطرت الجسم النقابي إلى إعلان استقلاله عن مجلس النقباء بتشكيل "نقابيون من أجل شباب 24 آذار"..، والتسمية تعني الشباب الذين اعتصموا في ميدان جمال عبد الناصر. وتأكدت عزلة النقباء والأحزاب المخترقة حين عجز هؤلاء معا عن جمع مائة شخص لحضور مهرجان خطابي دعوا له بعد أيام من لقائهم بالملك, بالتزامن مع الاعتصام التالي لشباب 24 آذار، بقصد إفشال الاعتصام الذي جمع بالمقابل أكثر من ألف وخمسمائة, رغم توالي وتشعب وسائل تشظية جمع الشباب التي لا تقل التواءً عما جرى لهم الجمعة. ولكن استشعار الأزمة دخل الدائرة الملكية عبر آخرين لم يكونوا محاصرين بحاشية طارئة. وخروج الأمير الحسن للعلن بعد طول صمت وعزلة عن الشأن الداخلي, جرى قبل أحداث الجمعة, وتمثل في إعلانه أن منتدى الفكر العربي الذي أسسه ويرأسه, يجهز لاحتفالية في بداية العام المقبل تتناول دستور عام 1952 الذي هو أبرز ما يذكر به الأردنيون العهد القصير لوالده الملك طلال, باعتباره العهد الذهبي للمملكة, ولا يلزم أي حشد أو تجييش بترهيب أو ترغيب لاستخلاص تلك الشهادة. وبعد أحداث الجمعة -التي أدانها الأمير بأكثر مما فعل الملك- أبدى الأمير تأييده لدستور عام 52 الذي يحقق الملكية الدستورية. وبدون خوض في التفاصيل التشريعية التي عرض الأمير لبعضها والتي ليس هنا مكان بحثها, فإن ما طرحه الأمير الحسن -منطلقا من خبرته الطويلة في الشأن المحلي، وأيضا من قراءته للمشهد العربي ومؤشراته المستقبلية كأحد المفكرين المعتد برأيهم عالميا- يؤشر إلى إدراك حتمية التغيير الجاري في العالم العربي إلى حد تسميته لها -متحديا غوغائية وسفه البلطجة الجارية- بـ"الثورة العربية الثانية", ووصفها بأنها ثورات "ديمقراطية", و"شريفة". ولم يغفل الأمير -في حديثه عن المشهد المحلي- أن يؤكد أن "الجو المسموم والمتوتر الحالي لا يخلو من أصابع ترغب في تحويل مسارات الثورة الشريفة". وهو بمجمله ربط تحديثي بالثورة العربية الكبرى التي باسمها جاء الهاشميون إلى الأردن. لا يجادل عاقل في أن الملكية المطلقة لم يعد لها مكان في هذا العصر, ورفضها كان قد حسم أردنيا على مستوى الساسة والنخب منذ أمد. ولكن ما حقق الإجماع الشعبي على رفضها هو صورتها التي رسمتها -بتجرؤ واستهتار عجيبين- تلك الأصابع المسمومة وطافت بها شوارع عمان. والصورة -وبالذات الصورة الدرامية المتناقلة لحدث عنيف حي في الشارع- هي ما يشكل وجدان الشارع وقناعاته بأكثر من النصوص السياسية من دساتير ونظريات حكم. بل إن الصورة في عصرنا هذا باتت تتجاوز التاريخ الموثق, إلى صنع التاريخ فورا وفي حينه، في ضوء الرسالة التي تحملها تلك الصورة الحية..، الصورة التي تجعل المواطن يقول: هذا ما أريده, أو هذا ما لا أريده. أمر يؤشر إلى أن أولوية الإصلاح القادم تتجلى بقطع بعض الأيدي, حتما ليس إعمالا لأجندة إسلامية انحسرت لصالح الدستور..، ولكن لأن تجاوز الحد بهذا الشكل يلزم بـ"الحد". |
المصدر: | الجزيرة |