لنتأمل بعض الرسائل التي أوصلتها شعوبنا لطغاة غرّرت بهم كتب التاريخ، وهي توهمهم بخرافة المستبدّ العادل، وأن بوسعهم أن يأتوا بما لم تستطعه الأوائل، وغرّرت بهم حاشيتهم وهي توهم كلا منهم بأنه الرجل الذي يعادل ألفا، وأن الألف ممن سواه يعادلون الأفّ، وغرّرت بهم طبيعتهم الأمّارة بالسوء وهي توهمهم بأنهم يستطيعون فعل كل شيء دون محاسبة، وغرّر بهم جهلهم وهم يقرؤون تقارير المخابرات عوض قراءة كتب التاريخ.الرسالة التونسية: مهما كنتَ بارعا في القمع والتزييف والكذب فستجد الشارع يوما يصرخ "الشعب يريد إسقاط النظام" وسيسقط نظامك، ولن ينقذك لا وعد ولا وعيد. أما فسادك وفساد عائلتك، فسيكون أكبر مِعْول لحفر قبر سلطانك وقبر شرفك على فرض أنك أعطيت يوما قيمة لشيء مثل هذا.
الرسالة المصرية: لا تحالفاتك مع أقوى قوة في الأرض، ولا خدماتك المتعددة لها، وتفريطك في كرامة شعبك ومصالحه، قادرة على منعك من السقوط، وحماتك الأجانب هم أول من سيغسلون أيديهم منك.
الرسالة السورية: مهما كانت قسوة قبضتك الأمنية وفظاعة سجونك، فإنك ستجد الشعب يوما في الشارع مطالبا برأسك.
الرسالة الليبية: مهما كانت شراسة الرد العسكري على انتفاضة شعبك، ومهما أرقت من الدماء فستسقط في آخرة المطاف، لا العالم ولا الشعوب أصبحت تسكت على أي نيرون جديد.
الرسالة اليمنية: مهما كنت بارعا في اللعب على القبلية لا بدّ أن تحين ساعة دفع الثمن وستدفع.
الرسالة البحرينية: لن تنجح الطائفية في إنقاذ حكمك، حيث سيصرخ متظاهرون ويحاصرونك الوقت الكافي لإسقاطك "لا سنية لا شيعية وحدة وحدة وطنية"، ولن تصمد طويلا أمام شعب هذا خياره الإستراتيجي.
بطبيعة الحال هناك رسائل أخرى بصدد الكتابة وسيأتي وقت إيصالها لأصحابها الذين لا يزالون على الوهم بأنهم غير معنيين بالبريد المضمون الوصول الذي توزعه الأمة هذه الأيام على كل من قوّموها دون مستواها وقوّموا أنفسهم فوق مستواها.
المساكين!
تصوروا معنويات هذا الملك وذاك الرئيس يوم يدقّ على الباب الموزع وبيده الإشعار بضرورة إخلاء المحل وقد انتهى عقد الكراء.
المشكلة أن الأغبياء الخطرين الذين قادونا وقادوا أنفسهم للوضع الحالي لم يفهموا كل دروس الثورة العربية المباركة.
هل سيأتينا ثواب في الدنيا والآخرة نحن بأمسّ الحاجة إليه إن نحن جمعنا أهم هذه الدروس على أمل (أو وهم) قدرتها على فتح بصيرة من ما زالوا راكبين ظهر الأسد، ومن سيحاولون امتطاءه غدا للبقاء في سلام على ظهره والنزول عنه دون أن تمزقهم الأظافر والأنياب؟.
تصوّر أنهم وضعوا نصب أعينهم هذه الحقائق التي تنضح بها رسائل أمتهم والتاريخ.
- الناس تسعى للسلطة والمال أساسا لنيل المحبة والاحترام، فما نفع مال تكدسه بالفساد وسلطة تمارسها بالقمع والكذب، وهما لا يجلبان لك إلا البغض والاحتقار ولا لأطفالك وأحفادك إلا اسما مجلّلا بالعار؟، عُدْ لفلسفة عمر الفاروق في الحكم، فهي التي حفرت له اسما أزليا في عقول وقلوب العرب و المسلمين.
- تستطيع أن تكذب مرة واحدة على شخص واحد، لكنك لن تفلح في تمرير الكذب طول الوقت على كل الناس، فانْأ بنفسك عن فلسفة بن علي في الحكم، تلك الفلسفة التي جعلته مضغة في الأفواه الساخرة على مرّ العصور، ولما أقاموا مثالا للكذب أعطوه ملامحه.
- بدل شرعية القوة اخترْ دوما قوة الشرعية، فهي الأضمن والأمتن، وتذكرْ أن من عاش بحد السيف مات به مهما كان حدّ سيفه قاطعا.
- ألدّ أعدائك حاشية السوء التي تُسمِعك ما تريده أنت في مقابل أن تأخذ منك ما تريده هي، تقودك إلى الهلاك من حيث لا تدري لا أنت ولا هي.
- اصبر على أذى المعارضة، صادقة كانت أم مغرضة وتعجيزية. اتركها تعمل في الهواء الطلق دون اختراق أو تعطيل أو قمع، فهي التي تعطيك أهمّ المعلومات وأصدقها عن حالة النظام ووضع البلاد. هي التي تُظهِر مواطن النقص التي يمكنك علاجها قبل أن تستفحل. تمثل بقول الشاعر الأندلسي:
عداتي لهم فضل عليّ ومنّة ** فلا أبعد الرحمن عني الأعادياهُمُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
- لا تطوق نفسك من الجهات الأربع في التعامل مع شعبك، ولا تطوقه هو من الجهات الأربع. اترك له ولك منفذا وطريقا بالتواصل مع ألدّ الخصوم وعدم ارتكاب محظور التعذيب والقمع البذيء، حتى إذا جاءت ساعة المواجهة خفّ ثمنها من دمك ودماء الآخرين.
- لا يخدعنّك هدوء الشعب فهو كائن حي ّ له من العمر أحيانا آلاف السنين، وتمرّن على كل فنون التخلّص من الطغاة، وما سُكونه الظاهري إلا اختباء السبُع داخل الأعشاب بانتظار لحظة الانقضاض على معذّبه.
- أخيرا لا آخرا اعلم وعلّم من تريده خلفا لك أن السلطة في عصر التعليم والإعلام، في عصر تكنولوجيا الاتصال والمواصلات، في عصر أيديولوجيات التحرر الفردي والجماعي، لم تعد غنيمة حرب يفوز بها مغامر ويرثها ابنه للتمتع بامتيازاتها من عبادة الشخصية، والحق في المال العمومي، وقمع المحتجين بالبوليس السياسي، وتزييف الوعي بافتعال مؤسسات الحداثة.
بل إنما هي وظيفة اجتماعية تُمارَس تحت رقابة جماعية متزايدة الدقة والصرامة، لا ينجح فيها إلا من اكتسبوا الثقة والاحترام لأنهم جعلوا شعارهم: سيد القوم خادمهم، وسيد الأسياد من يعطي المثل لا من يعطي الأوامر.
أعيد قراءة ما كتبت فأنفجر ضاحكا. حتى أنا انخرطت دون وعي في سذاجات المثقفين الذين لعبوا على مرّ العصور دور وُعّاظ السلاطين، وكلهم أمل أن يقرأ سلطان جائر أو مبتدئ نصائحهم الثمينة ويعمل بها.
المصيبة أن لا جنس السلاطين الفاسدين ولا جنس وعاظهم (الطوباويين في أحسن الحالات والانتهازيين في أغلبها) اختفى أو سيختفي يوما. ما لم يتعلمه المثقفون السذج هو أن مَن منحه الله عقلا وضميرا ليس بحاجة لنصائحهم، ومن منعه إياهما لا يلتفت إليها.
هم ينسون أو يجهلون أن أكبر قانون علمنا إياه التاريخ هو أن لا أحد يتعّظ من التاريخ، وأن كل دروسه ذهبت وتذهب أدراج الرياح.
تسألني لماذا كل هذا التشاؤم؟
ثمة لهذه اللعنة جملة من الأسباب:
- لا تتغير طبيعة البشر، إذ لا تورّث الخصائص المكتسبة بالتجربة الفردية والجماعية، ومن ثم لا تقدم عبر العصور في قصص الحب والزواج والطلاق والصداقة والعداوة، وكل ما يتغير هو أزياء الممثلين أما المسرحية فواحدة طوال التاريخ.
- من خصائص النفوس ممارسة الظلم (حتى ولو أنه من شيمها السعي إلى العدل)، وكل واحد منا ظالم يمارس الظلم ومظلوم يضجّ بالشكوى منه. ومن ثم فإن كمية الظلم والظالمين لا تتغيّر عبر العصور مثلما لا تتغير نسبة البخل والبخلاء.
- لا ينفع في تغيير هذا الواقع لا دين ولا أيديولوجيا ولا أخلاق ولا فلسفة ولا ثورة. وكل ما أمكن هو شيء من التخفيف وردة فعل عنيفة من ثورة لأخرى عندما يتجاوز الظلم حدوده "المعقولة".
- كما يؤدي وضع جزيئين من الهيدروجين وجزيء من الأوكسجين إلى تكوين جزيء من الماء، فإن احتكاك المال والسلطة والبشر يؤدي آليا إلى ظهور الفساد والظلم. وهذا بغض النظر عن الجنس واللون والدين والنظام السياسي. والفرق الوحيد بين الديمقراطية والاستبداد قدرة الأولى على شيء من العلاج وقدرة الثاني على تغذية المرض.
- من طبيعة السلطة -وخاصة الاستبدادية منها- أن تجذب المصابين بجنون العظمة مثلما يجذب النور الفراش، وهذا ما يجعل من ساحة السياسة ملتقًى لكمّ هائل من المرضى النفسانيين. وما التأله عند بعض الزعماء العرب إلا إحدى مظاهر هذا القانون الذي يمثل القذافي ذروته.
- السلطة مخدّر والمصاب بها مدمن بالمعنى الطبي للكلمة، أي إنه يحتاجها لما توفره من لذة، ثم يحتاج لكمية متزايدة منها للحصول على نفس المتعة.
كما تدمر الكميات المتزايدة من الكحول أو الهيروين أنسجة الجسم فإن مخدّر السلطة يدمّر شيئا فشيئا "أنسجة" العقل والروح ولا مجال للتراجع. والدكتاتور يزداد تبعية لمخدره، وحرمانُه منه موجع أشد الوجع، ومن ثم استعداده لكل شيء حتى لا يُحرَم منه. وهذا هو حال مدمن المورفين، المستعد للقتل لتوفير ثمن المخدر، مع فارق هام هو أن المدمن على السلطة مستعد لقتل الملايين.
- تورّط هؤلاء المرضى ومن يحيط بهم في كمّ هائل من الجرائم يجعلهم بدون خط رجعة، ومن ثم ليس أمامهم من خيار غير شعار "وداوني بالتي كانت هي الداء"، إلى أن ينتهوا كما هو الحال مع صاحب الكتاب الأخضر "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ".
لقائل أن يقول إذن رسائل الأمة للطغاة العرب بلا جدوى، حيث لن يفهم فحواها من يجترون هزيمتهم، ولا الذين ما زالوا يتحكمون في رقابنا.
نعم للأسف.
انتبهوا للرسالة التي يبعث بها من بقي طافيا من الذين قادونا وقادوا أنفسهم للتهلكة: لن نخرج أبدا من السلطة لأننا لا نستطيع ذلك، نحن المدمنون الذين حاصرنا أنفسنا والآخرين من الجهات الأربع، لذلك لا خيار لنا غير البقاء بالعنف وبمزيد من الخبث والوعود، إلى أن نعيد السيطرة على الوضع وتعود المياه "الآسنة" إلى مجاريها ونواصل الإدمان إلى أن نموت به.
انتبهوا للرسالة التي يبعث بها من فقدوا السلطة في تونس ومصر: نحن فلول المافيات والبوليس السياسي وأباطرة الحزب الحاكم القديم، مصممون على العودة من النافذة بعد أن أخرجتمونا بالركل من الباب. سنتنظم من وراء الستار وسنخلق فوضى تجعل الناس يكفرون بالثورة، ويطالبون بعودة الاستقرار تحت راية منقذ جديد نحن بصدد إعداده وسترون منه العجب العجاب.
في هذه الحالة ما العمل ورسائلنا إليهم بلا متلق، ورسائلهم إلينا تبعث الرعب؟، أين المخرج على الأمد القريب وما الحلّ على الأمد المتوسط والبعيد؟.
إتمام الثورة هو المهمة الأولى بما أنه لا حياة لمن تنادي. ليُسمح لي هنا بترديد ما ردّدته طيلة السنوات العشر الأخيرة، أي ضرورة ترك منفذ للمدمنين الخطرين ومقايضة خروجهم السلمي بعدم المتابعة.
إن ما يعيشه الشعب الليبي ليس ناجما عن مجرد جنون القذافي، ولكن أيضا عن غلطة إصدار مذكرة توقيف بحقه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، مما جعله كالحيوان الجريح المحشور في الزاوية والذي لا خيار له غير الدفاع عن نفسه إلى آخر قطرة من دمه، والأهم من دماء الآلاف.
لمن لا يعجبه موقفي أذكّر بأن العدل والقصاص وإنصاف الضحايا أمور هامة، لكن الحفاظ على حياة الآلاف أهم منها. نفس الموقف هو الذي يجب اتخاذه بالنسبة لفلول العهد البائد وأكثرهم لا يتآمرون على الثورة أملا في نصر يعرفون أنه مستحيل، ولكن من فرط الخوف على مستقبلهم.
فلنحيّد شرهم على طريقة جنوب أفريقيا التي أقامت لجان الحقيقة والمصالحة، أي فتح ملفات كبار المجرمين من البوليس السياسي والحزب الحاكم لمعرفة الحقيقة وإنصاف الضحايا، ولوضع هؤلاء الناس أمام خيار تقديم اعتذارهم وطلب الصفح، أو المثول أمام محاكم تقاضيهم في كنف الشفافية وبعيدا عن منطق الثأر.
المهمة الثانية، هي بناء أسلم نظام ممكن لحماية الأجيال القادمة من الوقوع تحت تسلّط صغار النفوس كبار اللصوص، أمثال بن علي ومبارك وعلي صالح، وكبار المجانين مثل القذافي.
ما يُعَلمنا التاريخ هو ضَعْف مردود الوعظ الديني والأخلاقي لأن من يستمعون إليه هم الذين لهم استعدادات فطرية للتصرف أخلاقيا، أما الذين ليست لهم تلك الاستعدادات فلا تأثير للخطاب التوعوي عليهم، بل هم من يستولون على الدين ويستخدمونه لخدمة الجزء المظلم من شيم النفوس.
يجب بالطبع مواصلة التربية الدينية والأخلاقية لا لشيء، إلا لتثبيت الاستعدادات الفطرية عند الأغلبية، لكن وضع النظام السياسي يجب أن ينطلق من حقيقة ثابتة أن العنصر التربوي غير كافٍ، وأنه يجب تأطير ومحاصرة الشرّ الذي هو فينا جميعا وليس فقط في الطامح للتألّه من بيننا.
مثال بسيط، كلنا تدافعنا أمام أكشاك هذه الإدارة أو تلك أو في المطارات في فوضى مشينة، وكل واحد يريد قضاء حوائجه الأول، ولم ينفع كثيرا احتجاج هذا ومطالبة ذاك باحترام الأولوية.
لكن الفوضى قضي عليها عندما وضع المشرفون على هذه المصالح حبالا ترسم مسارا متعرجا وإجباريا لا يسمح إلا بوقوف الفرد وراء الفرد. نفس الشيء عن نظام سياسي لا يراهن على انضباط يحضر ويغيب، ولكن يفرض على الجميع احتلال موقعه لا غير، ومن يخالف يطرد منه.
ليس لنا اليوم إلا النظام الديمقراطي على علاته للعب هذا الدور الذي يشلّ الفوضى والأنانية التي بداخلنا، وذلك عبر توزيع محكم للسلطات يضع القضاء خارج سلطة أي رئيس، وكذلك سلطة التشريع التي لا يختص بها إلا البرلمان، وتوزع السلطة التنفيذية بمهارة بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية (أو الملك)، بحيث لا يمكن لأي منهما أن يصبح دكتاتورا، كل هذا تحت المراقبة اللصيقة لمنظمات المجتمع المدني ولجان حماية الثورة في كل محافظات وقرى الوطن المحرّر.
بالطبع، هذا لن يلغي لا الفساد ولا الظلم ولا طموح المرضى للتأله والعيش على حساب الآخرين، وإنما سيمكننا من آليات قطع أعشاب ضارة تنبت باستمرار ولم ينفع في استئصالها يوما لا دين ولا نظام سياسي، لأنها الجزء المظلم القار في كل نفس بشرية. المصدر : الجزيرة نت.